الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
إنه أمر من الله لرسوله أن يحضر هذان الاثنان من بعد أن يؤديا صلوات دينهما وأن يقسما بالله، وأن يأتي أهل الميت ومعهم الورقة وليكشف الرسول الحق من الباطل. وقد أسلم تميم الداري من بعد ذلك وقص القصة وأحضر الخمسمائة درهم التي كانت في ذمته والتي أخذها ثمنا لنصف الإناء وأحضر الخمسمائة درهم الأخرى التي عند عدي ليرد ثمن الإناء كله إلى أهل الميت.ولماذا قال الله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة}؟. إنه أمر بأن نحتجزهم من بعد الصلاة؛ لأن الإنسان عادة بعد أن يؤدي الصلاة سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم تصفو نفسه بالاستعداد للصدق بعد أن وقف بين يدي الله، ويكون في هذه الحالة أقل اجتراءً على الكذب؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}.أي الشهادة التي يختلف فيها الناس وتختلف فيها الأقوال بين طرفين، ذلك أن كلمة «بين» تعني انفصال كائنين فيصير كل منهما طرفًا.إن هذه الشهادة تحتاج إلى الفصل بين وجهتي النظر. والذي يقوم بهذا الفصل هو من يستجوب الاثنين اللذين من ذوي العدل من المسلمين أو من غير المسلمين، ويتم الاستجواب من بعد أداء الصلاة. فإن صار الأمر الذي شهدا فيه واضحًا، كان بها. وإن لم يكن قولهما واضح الصدق وفيه شك وريبة، فعلى الشاهدين أن يقسما بالله أنهما لا يشتريان بآيات الله ثمنا حتى لا يكونا من الآثمين. اهـ.
ف «عِنْدِي» منصوبٌ بـ «مَكفُور»؛ قالوا: لأنَّ «غَيْر» بمنزلة «لاَ»، و«لاَ» يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها، وقد ذكر الزمخشريُّ ذلك آخرَ الفاتحةِ، وذكر أنه يجوزُ «أنَا زَيْدًا غَيْرُ ضَارِبٍ» دون «أنَا زَيْدًا مِثْلُ ضَارِبٍ»، و{اثنان} على هذين الوجهين الأخيرين يرتفعان على أحد وجهين: إمَّا الفاعلية أي: «يَشْهَدُ اثْنَانِ» يدل عليه لفظ {شَهَادة}، وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه بـ {شهادة} أيضًا أي: الشاهدان اثنان.الخامس: أنَّ {شهَادَةُ} مُبْتدأ، و{اثْنَانِ} فاعلٌ سدَّ مَسدَّ الخبَر، ذكره أبُو البقاء وغيره، وهو مذهبُ الفرَّاء، إلا أنَّ الفرَّاء قدَّر الشَّهادةَ واقِعةً موقعَ فِعْلِ الأمْر؛ كأنه قال: «لِيَشْهَدِ اثْنَانِ»، فجعلُه من باب نِيَابةِ المصْدَرِ عن فِعْل الطَّلَبِ، وهو مثل {الحَمْدُ لله} و{قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69]؛ من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ ضعيفٌ ردَّه النَّحْوِيُّون، ويخصُّون ذلك بالوصْفِ المعتمد على نَفْيٍ أو استفهامٍ؛ نحو: «أقَائِمٌ أبَواكَ» وعلى هذا المذهب فـ{إذَا} و{حِينَ} ظرفان مَنْصُوبان على ما تقرَّر فيهمَا في غير هذا الوجه؛ وقد تَحَصَّلْنا فيما تقدَّم أنَّ رفع {شَهَادَةُ} من وجْهِ واحدٍ؛ وهو الابتداءُ، وفي خبرها خَمْسَة أوجه تقدَّم ذكرُها مُفَصَّلَةً، وأنَّ رفع {اثْنَان} من خَمْسة أوْجُه:الأول: كونه خَبَرًا لـ {شَهَادَةُ} بالتَّأويل المذكُور.الثاني: أنه فاعلٌ بـ {شَهَادَةُ}.الثالث: أنه فاعلٌ بـ «يَشْهَدُ» مقدَّرًا.الرابع: أنه خبر مُبْتدأ، أي: الشَّاهدان اثْنَانِ.الخامس: أنه فاعلٌ سَدَّ مسدَّ الخبر، وأنَّ في «إذَا» وجهين: إمَّا النَّصْبَ على الظرفيَّة، وإمَّا الرفع على الخَبَرِيَّة لـ {شَهَادَةُ}، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبلُ، وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدَّم في قراءة الجُمْهور من غير فَرْقٍ.وأمَّا قراءةُ النصبِ، ففيها ثلاثةُ أوجهٍ:أحدها- وإليه ذهب ابن جنِّي-: أنها منصوبةٌ بفعل مضمرٍ، و{اثْنَان} مرفوعٌ بذلك الفعل، والتقدير: ليُقِمْ شهادةَ بَيْنكُمُ اثْنَانِ، وتبعه الزمخشريُّ.وقد ردَّ أبو حيان هذا؛ بأن حذف الفعل وإبقاء فاعله، لم يُجِزْهُ النحويون، إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله؛ كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36- 37] في قراءة ابن عامر وأبي بَكْرٍ، أي: يُسَبِّحُهُ رجال؛ ومثله: [الطويل] وفيه خلافٌ: هل يَنْقاسَ أو لا؟ أو يُجَابَ به نَفْيٌ؛ كقوله: [الطويل] أي: بَلْ عراه أعظمُ الوجْدِ، وما نحْنُ فيه ليس من الأشياء الثلاثة.الثاني: أن {شَهَادَةً} بدل من اللفظ بفعل، أي: إنها مصدر ناب مناب الفعلِ، فيعملُ عملَه، والتقدير: لِيَشْهد اثْنَانِ، فـ{اثْنَانِ} فاعل بالمصدر، لنيابته منابَ الفعلِ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ، على حسبِ الخلاف في أصل المسألة، وإنما قدَّرْتُه «لِيَشْهَدِ اثْنَانِ»، فأتيتُ به فعلًا مضارعًا مقرونًا بلام الأمر، ولم أقدِّرْهُ فِعْلَ أمر بصيغة «افعل»؛ كما يُقَدِّرُه النحويُّون في نحو: «ضَرْبًا زَيْدًا»، أي: «اضْرِبْ» لأنَّ هذا قد رفع ظاهرًا وهو «اثنانِ»، وصيغةُ «افعل» لا ترفع إلا ضميرًا مستترًا إن كان المأمور واحدًا؛ ومثلُه قوله: [الطويل] ف «زُرَيْقُ» يجوز أن يكون منادًى، أي: يا زُرَيْقُ، والثاني: أنه مرفوع بـ «نَدْلًا» على أنه واقعٌ «لِيَنْدَلْ»، وإنما حُذِف تنوينه؛ لالتقاء الساكنين؛ على حَدِّ قوله: [الطويل] الثالث: أنَّ {شَهَادَةً} بدل من اللفظ بفعلٍ أيضًا، إلا أنَّ هذا الفعل خبريٌّ، وإن كان أقلَّ من الطلبيِّ، نحو: «حَمْدًا وشُكْرًا لا كُفْرًا»، و{اثْنَانِ} أيضًا فاعلٌ به، تقديرُه: يَشْهَدُ شَهَادَةً اثنانِ، وهذا أحسنُ التخاريجِ المذكُورة في قولِ امرئ القيس: [الطويل] «وُقُوفًا» مصدرٌ بدلٌ من فعلٍ خبريٍّ رفع «صَحْبِي» ونصب «مَطِيَّهُمْ» تقديره: وقف صَحْبِي، وقد تقدَّم أنَّ الفرَّاء في قراءة الرفع قدَّرَ أن {شَهَادَة} واقعةٌ موقع فعلٍ، وارتفع {اثْنَان} بها، وقد تقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكون مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر، و{بَيْنَكُمْ} في قراءةِ مَنْ نوَّن {شَهَادَة} نصبٌ على الظرف، وهي واضحةٌ.وأمَّا قراءةُ الجرِّ فيها، فَمِنْ باب الاتِّساعِ في الظُّروفِ، أي: بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ، ومثله: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وكقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] فيمن رفع، قال أبو حيان: وقال الماتُرِيديُّ- وتبعه الرازيُّ-: إنَّ الأصلَ «مَا بَيْنَكُمْ» فحذف «ما»، قال الرازيُّ: و{بَيْنَكُمْ} كنايةٌ عن التنازُعِ؛ لأنه إنما يُحْتَاجُ إلى الشهود عند التنازع، وحَذْفُ «ما» جائزٌ عند ظهوره؛ ونظيرُه كقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في قراءة مَنْ نصب قال أبو حيان: «وحَذفُ «ما» الموصولةِ غيرُ جائز عند البصريِّين، ومع الإضافة لا يَصِحُّ تقديرُ «ما» ألبتة، وليس قوله: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] نظيرَ {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] لأن هذا مضافٌ، وذلك باقٍ على ظرفيته فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ «ما»؛ بخلاف {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] و{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}؛ فإنه لا يُتَخَيَّلُ فيه تقديرُ «ما»؛ لأنَّ الإضافة أخْرَجَتْهُ عن الظرفيَّة وصَيَّرَتْهُ مفعولًا به على السَّعَة»، قال شهاب الدين: هذا الذي نقله الشيخ عنهما قاله أبو عليٍّ الجُرْجَانِيُّ بعينه، قال- رحمه الله تعالى-: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}، أي: ما بَيْنكُمْ، و«مَا بَيْنَكُمْ» كنايةٌ عن التنازُع والتشاجر، ثم أضافَ الشهادة إلى التنازعِ؛ لأن الشهودَ إنَّما يُحْتَاجُ إليهم في التنازُعِ الواقعِ فيما بين القوم، والعربُ تُضيفُ الشيْءَ إلى الشيءِ، إذا كان منه بسبب؛ كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46]، أي: مقامه بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، والعربُ تَحْذِفُ كثيرًا ذكر «ما» و«من» في الموضِعِ الذي يُحْتَاجُ إليهما فيه؛ كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ} [الإنسان: 20] أي: ما ثَمَّ، وكقوله: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] و{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] أي ما بَيْنِي، ومَا بَيْنَكُمْ، وقول أبي حَيَّان «لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ «ما» إلى آخره» ممنوعٌ؛ لانَّ حالة الإضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف، ولا يَلْزمُ من ذلك: أنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى، لا من حيث الإعرابُ؛ نظرًا إلى الأصْلِ، وأمَّا حَذْفُ الموصُولِ، فقد تقدَّم تحقيقُه.
|